كان أول ظهور لثورة صاحب الزنج  الدعي علي بن محمد عام 255هـ وبدأ يستفحل أمره وتوالت الحروب بينه وبين جيوش الخلافة مرة تلو الأخرى، وكل ذلك لم يظفروا به، فدخل البصرة والسبخة والأبلة وعبادان والأهواز، حتى خافه كثير من أهل البصرة وفروا خارج البصرة، فكان هذا بداية لدولتهم الجديدة المؤسسة أصلا على الزنج من العبيد الفارين والمتمردين على أسيادهم، ومن أسر من العبيد في حروبه.


ظهر بمصر إنسان علوي ذكر أنه أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن طباطبا، وكان ظهوره بين الرقة والإسكندرية، وسار إلى الصعيد، وكثر أتباعه، وادعى الخلافة، فسير إليه أحمد بن طولون جيشا فقاتلوه، وانهزم أصحابه عنه، وثبت هو فقتل، وحمل رأسه إلى مصر.


لما ولي أحمد بن طولون مصر سكن مدينة العسكر على عادة أمراء مصر من قبله، ثم أحب أن يبني له قصرا، فبنى القطائع.

والقطائع قد زالت آثارها الآن من مصر، ولم يبق لها رسم يعرف، وكان موضعها من قبة الهواء، التي صار مكانها الآن قلعة الجبل، إلى جامع ابن طولون، وهو طول القطائع، وأما عرضها فإنه كان من أول الرميلة من تحت القلعة إلى الموضع الذي يعرف الآن بالأرض الصفراء, وكانت مساحة القطائع ميلا في ميل, وقبة الهواء كانت في السطح الذي عليه قلعة الجبل.

وتحت قبة الهواء كان قصر ابن طولون.

وموضع هذا القصر الميدان السلطاني الآن الذي تحت قلعة الجبل بالرميلة, وكان موضع سوق الخيل والحمير والبغال والجمال بستانا.

يجاورها الميدان الذي يعرف اليوم بالقبيبات؟ فيصير الميدان فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون المعروف به.

وبجوار الجامع دار الإمارة في جهته القبلية، ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة المحيطة بمصلى الأمير إلى جوار المحراب، وهناك دار الحرم.

والقطائع عدة قطع يسكن فيها عبيد الأمير أحمد بن طولون وعساكره وغلمانه.

وسبب بناء ابن طولون القصر والقطائع كثرة مماليكه وعبيده، فضاقت دار الإمارة عليهم، فركب إلى سفح الجبل وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى، واختط موضعهما وبنى القصر والميدان، ثم أمر أصحابه وغلمانه أن يختطوا لأنفسهم حول قصره وميدانه بيوتا فاختطوا وبنوا حتى اتصل البناء بعمارة الفسطاط- مصر القديمة- ثم بنيت القطائع، وسميت كل قطيعة باسم من سكنها.

فكان للنوبة قطيعة مفردة تعرف بهم، وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم، وللفراشين قطيعة مفردة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم، وبنى القواد مواضع متفرقة، وعمرت القطائع عمارة حسنة وتفرقت فيها السكك والأزقة، وعمرت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات، والأفران والحوانيت والشوارع, ولما بنى ابن طولون القصر والميدان، وعظم أمره زادت صدقاته ورواتبه حتى بلغت صدقاته المرتبة في الشهر ألفي دينار، سوى ما كان يطرأ عليه من مصاريف أخرى، وكان يقول: هذه صدقات الشكر على تجديد النعم، ثم جعل مطابخ للفقراء والمساكين في كل يوم، فكان يذبح فيها البقر والغنم ويفرق للناس في القدور الفخار والقصع، ولكل قصعة أو قدر أربعة أرغفة: في اثنين منها فالوذج، والاثنان الآخران على القدر أو القصعة، وكان في الغالب يعمل سماط عظيم وينادى في مصر: من أحب أن يحضر سماط الأمير فليحضر، ويجلس هو بأعلى القصر ينظر ذلك ويأمر بفتح جميع أبواب الميدان ينظرهم وهم يأكلون ويحملون فيسره ذلك، ويحمد الله على نعمته.

وجعل بالقرب من قصره حجرة فيها رجال سماهم بالمكبرين عدتهم اثنا عشر رجلا، يبيت في كل ليلة منهم أربعة يتعاقبون بالليل نوبا، يكبرون ويهللون ويسبحون ويقرؤون القرآن بطيب الألحان ويترسلون بقصائد زهدية ويؤذنون أوقات الأذان.


ظهر بصعيد مصر إنسان ذكر أنه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أبي طالب العلوي، ويعرف بابن الصوفي، وملك مدينة أسنا ونهبها وعم شره البلاد.

فسير إليه أحمد بن طولون جيشا فهزمه العلوي، وأسر المقدم على الجيش، فقطع يديه ورجليه وصلبه؛ فسير إليه ابن طولون جيشا آخر فالتقوا بنواحي إخميم، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم العلوي، وقتل كثير من رجاله، وسار هو حتى دخل الواحات.


كان صالح بن وصيف قائدا من الأتراك صاحب تسلط شديد, وهو أحد المتآمرين على قتل المتوكل، ثم اختفى فطلبه الأتراك بسبب أموال بينهم فأتوا المهتدي ليكشف لهم أمر صالح.

فقدم موسى بن بغا الكبير إلى سامرا بطلب من الخليفة, فدخلها في جيش هائل، فأتوا دار الخلافة التي فيها المهتدي جالسا لكشف المظالم فاستأذنوا عليه فأبطأ الإذن ساعة، وتأخر عنهم فظنوا في أنفسهم أن الخليفة إنما طلبهم خديعة منه ليسلط عليهم صالح بن وصيف، فدخلوا عليه بالقوة, فأقاموه من مجلسه وانتهبوا ما كان فيه، ثم أخذوه مهانا إلى دار أخرى، فجعل يقول لموسى بن بغا: ما لك ويحك؟ إني إنما أرسلت إليك لأتقوى بك علي صالح بن وصيف.

فقال له موسى: لا بأس عليك، احلف لي أنك لا تريد بي خلاف ما أظهرت.

فحلف له المهتدي، فطابت الأنفس وبايعوه بيعة ثانية مشافهة، وأخذوا عليه العهود والمواثيق ألا يمالئ صالحا عليهم، واصطلحوا على ذلك.

ثم بعثوا إلى صالح بن وصيف ليحضر لهم للمناظرة في أمر المعتز، فوعدهم أن يأتيهم، ثم اجتمع بجماعة من الأمراء من أصحابه وأخذ يتأهب لجمع الجيوش عليهم، ثم اختفى من ليلته لا يدري أحد أين ذهب في تلك الساعة، فبعثوا المنادية تنادي عليه في أرجاء البلد وتهددوا من أخفاه، فلم يزل مختفيا إلى آخر صفر, ولما أبطأ خبر صالح بن وصيف على موسى بن بغا وأصحابه، قال بعضهم لبعض: اخلعوا هذا الرجل- يعني الخليفة- فقال بعضهم: أتقتلون رجلا صواما قواما لا يشرب الخمر ولا يأتي الفواحش؟ والله، إن هذا ليس كغيره من الخلفاء، ولا تطاوعكم الناس عليه، وبلغ ذلك الخليفة فخرج إلى الناس وهو متقلد سيفا، فجلس على السرير واستدعى بموسى بن بغا وأصحابه، فقال: قد بلغني ما تمالأتم عليه من أمري، وإني- والله- ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي، أما تستحيون؟ كم يكون هذا الإقدام على الخلفاء والجرأة على الله عز وجل، وأنتم لا تبصرون؟ سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالأموال عنكم وعن الضعفاء! هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وفي منازل إخوتي ومن يتصل بي، هل ترون فيها من آلات الخلافة شيئا، أو من فرشها أو غير ذلك؟ وإنما في بيوتنا ما في بيوت آحاد الناس، وتقولون إني أعلم خبر صالح بن وصيف، وهل هو إلا واحد منكم؟ فاذهبوا فاعلموا علمه وأما أنا فلست أعلم علمه.

قالوا: فاحلف لنا على ذلك، قال أما اليمين فإني أبذلها لكم، قال: فكأنهم لانوا لذلك قليلا.

ثم ظفروا بصالح بن وصيف فقتل وجيء برأسه إلى المهتدي بالله، وقد انفتل من صلاة المغرب، فلم يزد على أن قال: واروه.

ثم أخذ في تسبيحه وذكره.

ولما أصبح الصباح رفع رأس صالح بن وصيف على رمح ونودي عليه في أرجاء البلد.

هذا جزاء من قتل مولاه.

وما زال الأمر مضطربا متفاقما، وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة المهتدي وقتله رحمه الله.


بويع المعتمد على الله- وهو أحمد بن المتوكل على الله- بالخلافة في دار الأمير يارجوخ، وذلك قبل خلع المهتدي بأيام، ثم كانت بيعة العامة.

وفي صفر من السنة التالية عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، وأضاف إليه في رمضان نيابة بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأذن له أن يتصرف في ذلك كله.


هو الخليفة الصالح أمير المؤمنين أبو إسحاق، وقيل أبو عبدالله محمد بن هارون الثاني الواثق بالله بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد, وأمه أم ولد اسمها قرب, ولد في خلافة جده الواثق سنة 219ه, وبويع بالخلافة في رجب سنة 255ه، وما قبل بيعة أحد حتى بايعه المعتز بالله، بعد أن أقر بتنازله عن الخلافة له، وأشهد على نفسه بعجزه عن تولي مهامها.

كان المهتدي أسمر رقيقا، مليح الوجه، حسن اللحية, من أحسن الخلفاء مذهبا وأجودهم طريقة وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة, وكان عادلا، قويا في أمر الله، شجاعا، صواما قواما، لم تعرف له زلة, وكان سهل الحجاب كريم الطبع يخاطب أصحاب الحوائج بنفسه ويجلس للمظالم بنفسه, وكان يلبس القميص الصوف الخشن تحت ثيابه على جلده, وكان يقول: لو لم يكن الزهد في الدنيا والإيثار لما عند الله من طبعي لتكلفته وتصنعته؛ فإن منصبي يقتضيه، فإني خليفة الله في أرضه والقائم مقام رسوله، النائب عنه في أمته، وكان له سفط فيه جبة صوف وكساء كان يلبسه بالليل ويصلي فيه, وكان قد اطرح الملاهي، واعتزل الغناء، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين ومحاسبة عماله.

كان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، لما ذكر بما حدث للإمام أحمد بن حنبل على يد أسلافه، قال: رحم الله أحمد بن حنبل، والله لو جاز لي أن أتبرأ من أبي لتبرأت منه.

كان سفيان الثوري يقول: "الخلفاء الراشدون خمسة، ويعد فيهم عمر بن عبد العزيز, ثم أجمع الناس في أيام المهتدي من فقيه ومقرئ وزاهد وصاحب حديث أن السادس هو المهتدي بالله".

وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة.

فلما أراد أن يخالف بين كلمة الأتراك ليضعف تسلطهم على الخلافة، كتب إلى بايكباك أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ويكون هو الأمير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا، فلما وصل الكتاب بايكباك أقرأه موسى بن بغا فاشتد غضبه على المهتدي واتفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرا، وتركا ما كانا فيه، فلما بلغ المهتدي ذلك ركب في جيش كثيف واتجه لملاقاتهما, فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان وأظهر بايكباك السمع والطاعة, فأمر المهتدي عند ذلك بضرب عنق بايكباك، ثم ألقى رأسه إلى الأتراك، فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك ظغوتيا فخرج إليهم الخليفة فيمن معه، فلما التقوا تمالأ الأتراك الذين مع الخليفة إلى أصحابهم وصاروا إلبا واحدا على الخليفة، فحمل الخليفة عليهم فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف، ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة فعاجله أحمد بن خاقان فرماه بسهم في خاصرته، ثم حمل على دابة وخلفه سائس وعليه قميص وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسلموه إلى رجل، فلم يزل يجأ خصيتيه ويطأهما حتى مات- رحمه الله- وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد، ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل رحمه الله.


هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، إمام أهل الحديث بلا منازع، صاحب الصحيح، الذي أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول، ولد في بخارى، رحل إلى مكة وبقي فيها فترة يتلقى العلم، طاف البلاد للحديث يجمع ويحفظ، حتى صار إمام الحديث وحافظه في عصره، إماما في الجرح والتعديل، إماما في العلل.

قال ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري"، وكان فقيها.

بل منهم من فضله بالفقه على الإمام أحمد، وعلى ابن راهويه، قال الدارمي: "محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا، وأكثرنا طلبا"، كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء، رجع إلى بخارى فطلبه أميرها أن يوافيه ليسمع أولاده منه فلم يرض، فحقد عليه ونفاه من بخارى، فخرج إلى خرتنك قريبة من سمرقند، وفيها توفي عن عمر 62 سنة، توفي ليلة الفطر- رحمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.


تغلب الحسن بن زيد الطالبي على بلاد الري، فتوجه إليه موسى بن بغا في شوال، وخرج الخليفة لتوديعه, فكانت وقعة بين موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد، فهزم موسى أصحاب الحسن وتغلب عليهم.